16626.jpg

كيف روى السوريون المأساة الأرمنية عام 1915 وكيف تعاملوا معها

كيف روى السوريون المأساة الأرمنية عام 1915 وكيف تعاملوا معها

موجات الهجرات الأرمنية من تركيا إلى سورية، هرباً من القتل أو تجنباً للاضطهاد، تبدأ من عام 1894 وتمتد حتى عام 1939. وسنقوم بعرض موجز لأصدائها في بعض الكتابات العربية، في ما يتعلق بالهجرتين اللتين أعقبتا مذابح (1894 – 1896) ومذابح (1915).

1 – رجال الدين المسلمون في حلب يمنعون الجريمة

“على أثر ثورة الأرمن سافر في 20 تشرين الأول 1894 عسكر الرديف في حلب إلى بلاد عينتاب لقمع الثورة”. فخاف الناس من الفوضى وازداد تشاؤمهم مع تكاثر عدد الأرمن الهاربين من منطقة مرعش إلى حلب. وسعت بعض القوى الرجعية الاعتداء على الأرمن اللاجئين إلى أحياء حلب المسيحية. وقد شجع الوالي حسين باشا ميول الاعتداء على الأرمن. ولكن مشايخ حلب المسلمين وقفوا في وجه الوالي وأعلنوا: “أن المسيحي هو في ذمتنا ونحن مستعدون أن نفتح بيوتنا ونؤوي فيها المسيحيين حتى لا يصيبهم ضيم”. وبعدها عُزِل الوالي حسين باشا وجاء والٍ جديد مناهض للمذابح الطائفية. ولكن اشتداد الحرب “بين جند الدولة العثمانية والأرمن الثائرين أدى إلى ازدياد التوتر في المدينة. وخوفاً من حدوث المذابح دعا والي حلب الجديد في 3 كانون الثاني 1896 أعيان العائلات ومشايخ الحارات الإسلامية لتداول الرأي. مفتي حلب أعلن في خطبته “أن القرآن الكريم يحرّم أذى المسيحيين رعايا وجيران المسلمين طالما عاشوا مسالمين في حفظ شرائع الدولة” [1]. وهكذا نجا الأرمن الهاربون إلى حلب من القتل العشوائي بفضل الروح الإنسانية السمحاء في الإسلام وتقاليد التعايش بين المسلمين والمسيحيين.

2 – جريدة المقتبس

جريدة المقتبس النهضوية العربية في دمشق لصاحبها محمد كرد علي نشرت في عامي 1909 و1910 مجموعة مقالات تتسم بالتعاطف مع الأرمن. هذه المقالات قرأتها في المكتبة الوطنية بدمشق، ولم أتمكن من تصويرها لأسباب تقنية. وهي مثال ساطع على الروح الإنسانية المتوثِّبة لدى أعلام النهضة العربية.

3 – “سنة الأرمن”

عندما قمت بالجولة الميدانية عام 1984 لدراسة تاريخ الحركة الفلاحية مأخوذة من أفواه صانعيها (أي التاريخ المروي) لفت انتباهي تردد تعبير “سنة الأرمن”، والمقصود سنة 1915، على ألسنة المسنين ممن التقيت بهم في حوض الفرات. وكان حديث أولئك المسنين، وهم من العرب السنة، متعاطفاً مع المأساة الأرمنية، التي عاش هؤلاء المسنون فصولها الأخيرة. وروى هؤلاء كيف استقبل أهالي الفرات أفواج الأرمن من النساء والأطفال والشيوخ وساعدوهم في محنتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. والملاحظ أن الصبايا والأرامل الشابات المفجوعات بأزواجهنّ لم يجد كثير منهنّ أمامه من خيار إلا الزواج من الرجال، الذين آووهن. ولذلك نشأ جيل من شباب الفرات في منتصف القرن العشرين يجري الدم الأرمني في عروقه، وكان لهؤلاء الأمهات أثر في تنشئتهم. ويروي المفكر العربي ياسين الحافظ من دير الزور أن جدته لأمه الأرمنية كانت تفتخر بأرمنيتها وهي تعيش مع ابنتها أم ياسين في دير الزور. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن آثار الاختلاط بين عرب الفرات والأرمن الهارين في هذه المقالة.

4 – التيفوس يفتك بالأرمن وحراسهم

المهندس الزراعي أحمد وصفي زكريا ذكر أن قرابة 5000 بيت (المقصود عائلة) من الشاشان (الشيشان) نزحوا من ديارهم وأسكنتهم الدولة العثمانية سنة 1864 في شمال الجزيرة على نهر الخابور. وقامت الدولة بتجنيد قسم من شباب الشيشان في سلك الدرك العثماني لحفظ الأمن. وأثناء مذابح الأرمن “كُلف الدرك الشيشان بسوق قوافل الأرمن إلى القرى الواقعة على ضفاف الخابور والفرات. وكان مرض التيفوس يفتك بهذه القوافل فتكاً ذريعاً فوق فتك الجوع والإعياء. ونالت العدوى أيضاً درك الشيشان فمات منهم الكثير”. [2]

5 – صُوَر حيّة عن المذابح لشاهد عيان: العربي المسلم فايز الغصين

المحامي فايز الغصين، عضو الجمعية العربية الفتاة، نُفي بسبب نشاطه الوطني العربي في تموز 1915 من دمشق إلى ديار بكر. ومن هناك هرب من منفاه سائراً على ضفاف الفرات ولجأ إلى الجيش البريطاني، الذي احتلّ البصرة وتقدم نحو الشمال في حرب ضروس مع القوات العثمانية.

استقى الغصيّن تفاصيل عملية إبادة الأرمن “من الضباط والأطباء ومن الأهالي الذين رأوا المجازر بأعينهم”، وكذلك مما شاهده بأم عينه أثناء قدومه إلى ديار بكر وعندما غادرها هارباً. ونشر ذلك بالتفصيل في مذكراته المطبوعة في دمشق عام 1939. ولنقرأ نماذج منها:

“… وكنا نرى في طريقنا نساء الأرمن وأطفالهم وشيوخهم يسيرون مع الدرك كأنهم قطعان الغنم. وكنا نرى على حافتيْ الطريق جثث القتلى… وبقينا نمشي بين الأموات حتى وصولنا إلى ديار بكر”. [3] وبعد هرب الغصين من منفاه في ديار بكر باتجاه البصرة يروي لجوء الأرمن إلى العشائر العربية، التي حمتهم. ومنها أنه شاهد عند مسلط باشا شيخ عشيرة الجبور “أرمنياً من إسطنبول وآخر من ديار بكر يدعى ديكران، وهو من عائلة معروفة في ديار بكر. وقد تزوج مسلط باشا أخت هذا الأرمني. وكان عنده عدد من الأرمنيات للخدمة”. [4]

“المتطوعة من شركس وأكراد ذهبوا بالمركبات (العربات التي تجرها الخيل أو البغال) لنقل الأرمن إلى الأماكن البعيدة المخصصة لإقامتهم. وعلمت أن والي ديار بكر رشيد بك قرر إبعاد الأرمن إلى ولاية الموصل. وعلى الطريق يقوم المتطوعة بإطلاق الرصاص على المهجّرين وإبادتهم. [5] وروى الغصين ما سمعه من أحد المتطوعة عن عملية قتل الأرمن خارج مدينة ديار بكر وسلبهم “ما يحملون من دراهم ولباس فيخزنون المال ويبيعون الثياب”. [6]

6 – من أورفة إلى الرقة

قرابة 150 أسرة أرمنية هربت عام 1915 من أورفة والتجأت إلى الرقة ودخلت في حماية آل العجيلي، العائلة القوية فيها. وعلى الرغم من جو التسامح السائد في الرقة فإن عدداً يسيراً من العائلات دخلت في الإسلام وتبنّت نمط حياة شبه كردية، لا سيما في الملبس. وهذه العائلات القليلة، التي هي أرمنية أكثر منها إسلامية، لم تستطع العيش مع العائلات المسيحية، التي تزدريها أو تتجاهلها وعاشت منطوية على نفسها على أن ذابت في المجتمع الرقاوي ولا يزال بعضها يحمل أسماء مسيحية. [7] وأثناء زيارتنا للرقة في ربيع عام 1992 تحدث القاص إبراهيم الخليل عن العلاقة الودية بين أهالي الرقة والأرمن. [8] ومعروف أن سكان الفرات لم تكن لديهم مشاعر التعصب ضد الآخرين. بنى الأرمن في الرقة كنيسة وأقاموا مدرسة ونشطوا في المهن التالية: الأفران، الكازوز، الأحذية، الميكانيك، بناء السكور على الأنهر، صنع عربات الجر إلخ… [9] والطريف في الأمر أن المشروبات الروحية لم تكن – حسب رواية إبراهيم الخليل – شائعة في المنطقة قبل الاتصال بالأرمن، حيث أخذت الخمور تصل المنطقة عن طريق التجارة الحلبية. وتدريجياً انتقل الأرمن من الرقة إلى حلب، التي تضم تجمعاً أرمنياً ضخماً… ومع انتشار العلاقات الرأسمالية في منطقة الجزيرة والفرات أسهم الأرمن في إعمار الجزيرة، وكانت لهم اليد الطولى في تشغيل الآلات الزراعية الحديثة وإصلاح المضخات والسيارات. [10]

7 – عبد الغني الجودة الضابط العربي، الذي أنقذ حياة أعداد من الأرمن

عبد الغني الجودة من مواليد حلب 1896 تخرج عام 1911 من المكتب (المدرسة) السلطاني في حلب وانتقل إلى استنبول للتخصص في العلوم الزراعية. وبعد نشوب الحرب عام 1914 سِيق إلى الجندية برتبة ضابط. عام 1915 كُلّف الضابط الجودة بمهمة عسكرية لمرافقة قافلة أرمنية ونقلها عبر الفرات إلى البادية السورية، ثم تركها في البراري ليموت أفرادها بسبب الجوع والعطش والتعب. ولكن النفس الأبيّة لعبد الغني الجودة ومشاعره الإنسانية حملته لمساعدة هؤلاء البؤساء من الأرمن وإنقاذ حياتهم، مخالفاً بذلك التعليمات العسكرية لرؤسائه ومعرضاً نفسه لعقوبة الإعدام بسبب موقفه هذا. فقد أوصل الضابط الحلبي العربي المسلم السني القسم الأكبر من هؤلاء الأرمن إلى بر الأمان في السلمية الواقعة على حافة البادية إلى الغرب من حماة، كما اتفق مع العرب البدو على إيصال القسم الآخر إلى دير الزور. وفي السلمية وقراها عمل القادرون من الأرمن في الزراعة واستمروا مقيمين فيها حتى نهاية الحرب حيث انتقلوا إلى مراكز تجمع الأرمن في سورية ولبنان.

القاضي سعد زغلول الكواكبي [11] (جدّه عبد الرحمن الكواكبي) سمع من قريبه عبد الغني الجودة ومن والدته أخبار هذا العمل الإنساني. وعندما زار يريفان التقى مصادفة بأحد الأرمن، الذين أنقذهم الجودة، وعاش في السلمية، ثم حطّ الرحال في عاصمة أرمينيا يريفان. وقد كتب الكواكبي مُوثِّقاً هذه المعلومات ومفتخراً بما قام به قريبه عبد الغني الجودة. وقام الصديق إياد الكواكبي مشكوراً بتقديم صورة عمّا كتبه شقيقه لكاتب هذه الأسطر. ولا يزال المخطوط في حوزة القاضي سعد الكواكبي.

وللقاضي سعد زغلول الكواكبي دراسة مطبوعة على الحرير تحت عنوان: “صفحة من تاريخ العرب والأرمن في سورية، خلال الاستعمار العثماني”. ولا عجب في ذلك، فأسرة الكواكبي في حلب برز من صفوفها النهضوي العربي عبد الرحمن الكواكبي، الذي اضطر لمغادرة حلب والالتجاء إلى مصر هرباً من اضطهاد السلطان عبد الحميد. ولا يزال كتابه “طبائع الاستبداد” المطبوع في مصر عام 1905 نبراساً يهدي الأجيال العربية إلى طريق النضال ضد الظالمين والمستبدين.

بقلم: عبد الله حنا
نقلا عن جريدة العربي | 9 مارس 2018

تنويه من الكاتب:
هذه الدراسة لموقف العرب من المجازر المرتكبة بحق الأرمن كَتبتُها منذ فترة طويلة في دمشق. وقبل أن أرسل هذه المادة إلى الضفة الثالثة أتتني فكرة الرجوع إلى الإنترنت، الذي لا أعتمده إلا ما ندر. لقد اعتاد جيلنا على الوثائق الورقية، واليوم تغيّرت الأحوال فرأيت نشر هذا المقطع حول الكنيسة الأرمنية التي دمّرها داعش كما دمّر المقدسات الإسلامية، التي يراها من البدع. وفيما يلي هذا المقطع المنقول عن الإنترنت، مادة أرمن:

“في بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 بدأت الدولة العثمانية بحملات ممنهجة لقتل وتهجير الأرمن، وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل القسري والتشريد التي كانت عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين، ويقدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن بين 1 مليون و1.5 مليون شخص.

وقد كانت دير الزور الوجهة الأخيرة في مسير التهجير القسري لقوافل الأرمن، ومسرحاً لعمليات القتل والذبح على يد جندرمة الأتراك، حيث خططت السلطات العثمانية لتصفية الأرمن على يد العرب إلا أن خططهم باءت بالفشل، فقد أَسِفَ أهالي دير الزور لِما حلّ بالأرمن رجالاً ونساء وأطفالاً، وسارع الحاج فاضل العبود الذي كان رئيساً لبلدية دير الزور مع وجهاء المدينة لنجدتهم ومد يد العون والمساعدة لهم حيث استقبلوهم وساعدوهم وقدموا لهم الطعام والسكن وكافة سُبل العيش والأمان.

وإذا كان لهجرة الأرمن القسرية وجهها المأساوي، فقد كان لها وجه إيجابي على مدينة دير الزور، انعكس في ارتفاع عدد سكان المدينة، وبالتالي ارتفاع معدل النمو السكاني فيها، وتحظى مدينة دير الزور بمكانة خاصة من الناحية التاريخية بالنسبة للأرمن في أرمينيا والشتات الأرمني، خاصة السوريين الأرمن، وتحمل رمزية معنوية بين المدن السورية، ولذلك شُيِّدت فيها كنيسة شهداء الأرمن، ومتحف يضم بعض الرفات ومقتنيات وخرائط تخليداً لذكرى الشهداء الذين قضوا في تلك المنطقة على يد العثمانيين الأتراك، وأضحت المدينة فيما بعد محجّاً لمئات آلاف الأرمن في 24 نيسان من كل عام، بعد أن أعلنها في عام 2002 الكاثوليكوس آرام الأول للأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا بأنها محج للأرمن”.

هوامش:

[1] عن “وثائق تاريخية من حلب”. بيروت 1958. المجلد 1، ص 85.

[2] هذا ما رواه المهندس زكريا أثناء عمله في دير الزور عام 1916، ونشره في كتابه: “عشائر الشام”، ج 2، دمشق 1947، ص 375.

[3] فايز الغصيّن: “مذكرات فايز الغصيّن”. دمشق 1939، ص 57.

[4] المصدر نفسه، ص 74.

[5] المصدر نفسه، ص 66.

[6] المصدر نفسه، 59.

[7] “تاريخ الرقة الاجتماعي وآفاق تطورها”. منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1982، ص 15 وما يليها. والكتاب يحوي تفاصيل دقيقة عن حياة الأرمن في الرقة.

[8] لقاء مع إبراهيم الخليل في الرقة بتاريخ 15 – 4 – 1992. وإبراهيم الخليل من مواليد الرقة عام 1940 ومدرس اللغة العربية فيها. ينشر قصصه في الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب. وهو يختزن في ذاكرته الأحداث التي سمعها من المتقدمين في السن أو شاهدها بأم العين.

[9] تاريخ الرقة الاجتماعي وآفاق تطورها… مصدر سابق، ص 24.

[10] انطباعات كاتب هذه الأسطر أثناء جولاته الميدانية عامي 1984 و1985 في مناطق الجزيرة والفرات.

[11] القاضي سعد زغلول الكواكبي هو حفيد عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب “طبائع الاستبداد” . (والشجرة كما يلي: عبد الرحمن أنجب فاضل مواليد 1898 وفاضل أنجب عدة أولاد منهم سعد وإياد وهما مقيمان في حلب).

scroll to top