11344.jpg

ليون زكي: يوحنا إبراهيم طراز فريد من الرجال

ليون زكي: يوحنا إبراهيم طراز فريد من الرجال

قدت جامعة لندن في 22 الشهر الفائت مؤتمر إحياء ثلاث سنوات على اختطاف المطران يوحنا إبراهيم، راعي أبرشية حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس، من قبل المسلحين أثناء عودته من الحدود التركية إلى حلب.

افتتح المؤتمر الأمير الحسن بن طلال (شقيق ملك حسين). وبالمناسبة، أصدرت الجامعة كتاباً عن نيافته حمل عنوان:

MOR GREGORIOS YOHANA IBRAHIM: Pluralism, Dialogue, and Co-Existence

“مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم: التعددية والحوار والعيش المشترك”

وتضمنت طياته مساهمة أكبر تجمع مسكوني لرؤساء الكنائس في الشرق والغرب في الكتابة إلى جانب قداسة البابا فرنسيس وكاثوليكوس كاريكين وكاثوليكوس آرام وبابا الأقباط ومفتي حلب وشيوخ وأئمة ووزراء ونواب ومحافظين وشخصيات فكرية وأدبية.

صدر الكتاب باللغة الإنكليزية والعربية وبلغات عدة، وطبعت “دار الآرامية” للنشر في ألمانيا 2500 نسخة، على أن ينشر الكترونياً لاحقاً.

وما يلي مشاركتي في الكتاب بمقال تحت عنوان ” يوحنا إبراهيم طراز فريد من الرجال”:

التقيت خلال مسيرة حياتي رؤوساء جمهورية لدول عديدة، رؤوساء مجلس وزراء ووزراء ونواب والكثير من رجالات القامات السياسية والدينية في سورية ولبنان وأرمينيا ودول أخرى، ولكن أردت أن أخص شخصية دينية سورية ومن حلب وهي المطران يوحنا إبراهيم لأن الضوء لم يسلط عليه بشكل كاف ولم ينل حقه من التعريف، وربما أتفرغ لتأليف كتاب خاص للحديث عنه نظراً للدور الذي لعبه في حلب وسورية ولما كان يمكن أن يقوم به لولا لم يتم تغييبه بشكل متعمد إثر خطفه على يد الإرهاب.

المطران إبراهيم رجل رعوي من الطراز الرفيع، كرس حياته لخدمة طائفته السريان الأرذوكس في حلب ومدينته الشهباء، تابع بدأب وجد شؤون رعيته بما يكفل حل مشاكلهم وتذليل كلا لصعوبات التي تعترضهم في شتى المجالات.

إلى جانب مهامه الدينية، يعد المطران إبراهيم من رجالات السياسة الذين لعبوا دوراً محورياً مهماً قبل الأزمة وخلالها في التقارب بين الأديان ورص صفوف الوحدة الوطنية ووأد الفتنة وخدمة بلده عبر المنابر الدولية التي وفرتها لها مشاركاته في الاجتماعات والمؤتمرات الخارجية وخصوصاً في عواصم القرار التي تمتع بعلاقات طيبة مع بعض مسؤوليها فأعلى من شأن سورية وحلب التي كانت الشغل الشاغل في جولاته.

تميز بثقافته العالية الرفيعة وبفكره الثاقب وطباعه الدمثة وحضوره الظريف الذي شكل المدخل إلى قلوب كل من عرفه والتقى به، ولم يبخل أبداً في تقديم النصح والمشورة التي حظي بها بفضل حكمته التي تؤت من يكتسبها فضلاً عظيماً فارتقى بعالمها وفضاءاتها إلى مستوى يغبط عليه.

ما يمز علاقاته مع سائر أطياف المجتمع، أنه ترك شعرة معاوية رابط حنكة ودهاء مع الذين قد يختلف معهم في التوجه والآراء، وهم أقلية بالطبع. ومن مناقبه التي يختص بها أنه يميل إلى التريث الناجم عن تفكير عميق قلماً يدفعه إلى التهور أو اتخاذ خطوات غير مدروسة.

عمر علاقتي وصداقتي الوثيقة به سنين طويلة تقاسمنا فيها الآمال المشاركة والآلام التي وحدتنا. كنا جنباً إلى جنب شركاء متحاورين في ندوات فكرية ومؤتمرات حوار، ولم تنقطع لقاءاتنا الخاصة واجتماعاتنا أبداً حتى في عز انشغالي أو انشغاله، وهي تكثفت مع بداية الأزمة التي راحت تعصف بحياة السوريين لتبادل الآراء والأفكار التي قد تفضي إلى اقتراح المخارج بحلول جزئية أو شاملة.

مع بداية عمر الأزمة بت أتابع خطبه في المنابر الدينية الدولية ولقاءاته في وسائل الإعلام وتصريحاته الجريئة والمثيرة للاهتمام بطريقة لا تحفظ فيها ولا مورابة متجاوزاً بعض الخطوط الحمر التي زرعها الرقيب في دواخلنا لسنوات طويلة دون أن نتمكن من تخطيها أو طرد الشرطي الذي عشعش في عقولنا وتمكن في كل كلمة أو عبارة تصدر عنها.
لم يك يتردد في تلبية دعوتي للقاء أو إلى طاولة العشاء في مطعم، وكثيراً ما طلب مسامرتي على انفراد أو بوجود أشخاص يقاسموننا ويشاطروننا الهموم والأفكار وحديث الساعة الذي فرضته الأحداث المؤسفة.

كنتُ أدرك أن قراءاته لأسباب الأزمة ولسير وتسلسل أحداثها كانت منطقية، وتنبأ بأنها ستنحو باتجاه التصعيد المسلح وتغليب لغة السلاح على السلم من دون إعطاء فرصة سانحة لتحكيم العقل بما يدخل البلاد في هوة يظل المتصارعون يحفرون عمقها، التي هي قبورهم، باستمرار.

ففي 28 أيار 2011 وبعد نحو شهرين من انطلاق شرارة الأحداث في سورية حذر المطران يوحنا إبراهيم، وبصفته ممثل الطوائف المسيحية المشرقية في القمة الدينية التي استبقت قمة رؤساء الدول الثماني الكبرى (G8) في فرنسا، من أن “أمن الشرق الأوسط من أمن سورية” وأنه إذا لم تنعم سورية بالاستقرار والسلام “فلن يحدث أمن وسلام في منطقة الشرق الأوسط، فمصر تحرك الحرب وسورية التي هي مصدر السلام والاستقرار في المنطقة تحرك السلام إذا توافر فيها”.

وخلال عظته التي ارتجلها في قداس أمام مئات السريان الأرثوذكس في كاتدرائية مار أفرام السرياني في لوس أنجلوس الأمريكية بتاريخ 13 تموز من العام ذاته وفي جولة قادته إلى ألمانيا وهولندا، قال بأنه لا يرى البديل الذي يطرح في السوق “إلا قمة الفوضى الخلاقة التي لا تريح الشعوب والدول وإنما تبعث روح الإحباط في نفوس المواطنين وتقضى على آمال الناس في الحرية والكرامة”. وطالب أبناء الجالية السورية باستخدام جميع الوسائل السلمية المتاحة “بغية نشر ثقافة السلام بين الدول والشعوب، ولا يتم ذلك إلا من خلال إقناع صناع القرار والإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية ليقفوا مع الحق والسلام الدائم بين الشعوب والدول وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للبلدان التي تريد أن تدير أمورها بنفسها”.

وبعد أسبوع، وفي عظة ألقاها بكنيسة السريان في اينشوبينك بالسويد التي يزيد عدد السريان فيها حينئذ عن 100 ألف نسمة، ناشد دول العالم “إعطاء سورية فرصة لتحقيق الإصلاح المرتقب وحمايتها من التقسيم والتجزئة أو الهيمنة على كيانها وطاقاتها من أطراف تعمل من الداخل والخارج لتشويه سمعتها”.

وأعرب المطران إبراهيم في ختام جولته الخارجية ومن قلب أديمان التركية وبحضور واليها عن قلقه وقلق معظم السوريين من “الأبواق التي ينفخ فيها أصحابها من الخارج ويبالغون في أخبار الاضطرابات والمظاهرات وأعمال العنف والقمع، ولهذه الأبواق أجندة خاصة تريد تحقيقها من أجل زعزعة الأمن والأمان في سورية وزرع الفوضى في جنبات هذا الوطن الآمن الذي عُرف بسمات هامة مثل احترام الآخر والعيش معاً تحت سقف المواطنة وحسن الجوار، واليوم يريد أعداء سورية أن يقلبوا المفاهيم رأساً على عقب”.
أما في عظته في كنيسة القديس مارجرجس في إهلن منتصف تشرين الثاني من العام 2011، فشدد على أنه إذا أراد العالم أن يعرف سورية من الداخل ويدرك كيف يعيش الناس مع بعضهم بعضاً “فعلى الدول والمؤسسات وأصحاب الضمائر الحية أن يقرؤوا التاريخ بكل أبعاده .. ففي العقود الأربعة الأخيرة برزت سورية على الساحتين العربية والإسلامية كوطن فيه كل معاني الأمان والاستقرار، واليوم أكثر من أي وقت مضى يجاهد السوريون من أجل ترسيخ معاني الوحدة الوطنية والعيش معاً تحت رايات وطن آمن لشعبه، أمناً واستقراراً و أنموذجاً حيّاً للتآلف بين مختلف الديانات والمذاهب والأثنيات والأطياف”.

ووضع نيافته النقاط على الحروف في اجتماعات المنتدى المسيحي العالمي في روما عندما أعلن صراحة في معرض حديثه عن الأحداث في سورية بأن “ارتفاع سقف المطالبة بالحريات العامة والديمقراطية واقتلاع الفساد والإصلاحات “تحوّل إلى حالات شاذة منها القمع والقتل والعنف، وهو ما لم يتوقعه أحد، فسورية آمنت في كل تاريخها بالسلم المدني واعتبرت أن الحوار هو الأداة الوحيدة لتحقيق ما يصبو اليه المواطنين، وهناك عناصر غريبة من خارج هذا الوطن أججت النيران في الشارع السوري”.

أردت من سرد بعض الاقتباسات من عظات المطران يوحنا وكلماته التشديد على حرصه الكبير في كل مناسبة على وحدة سورية “سورية التعددية والحضارة” والوصول إلى استنتاج مفاده أن حضوره القوي بات مقلقاً للجماعات المسلحة، وخصوصاً من غير السوريين، والذين ارتأوا في أقواله تهديداً صريحاً لوجودهم في المحافل الدولية فأرادوا التخلص منه، أو تغييبه عن الساحة بتعبير أدق، عبر اختطافه في وقت لاحق مع المطران بولس اليازجي.

scroll to top